الخميس، 4 أكتوبر 2012

بنغازيات ... منارة خريبيش


بنغازيات ... منارة خريبيش


عبد السلام الزغيبي


حزمت اوراقي ولملمت حاجياتي،وودعت الاصدقاء في أثينا، وعزمت على السفر الى بنغازي... وبنغازي وإن طال السفر... لا وجود لرحلات جوية مباشرة بين بنغازي وأثينا، ولابد من السفر للقاهرة، ومن هناك بالطريق البري لبنغازي... في القاهرة كان باستقبالي ابن اخي وليد، القادم هو الاخر من تونس، بعد ان استطاع الخروج من طرابلس في بداية الاحداث..مكثنا يومين في القاهرة ومن هناك ذهبنا بالقطار الى الاسكندرية التي وصلناها مساء، حيث كان شقيقي سعد ،وابن اخي عمر في انتظارنا بالسيارة لنسافر الى بنغازي، وبعد السلامات والسؤال عن الاحوال،ذهبنا الى الشقة لنرتاح، وفي ظهر اليوم الثاني، غادرنا الى بنغازي.وصلنا الى بوابة الحدود المصرية ثم الليبية فوجدنا الامور مختلفة والمعاملة طيبة وعلم الاستقلال يرفرف على المكان. كانت السيارة تنهب الارض نهبا، وتوقفنا مرة لتناول الاكل والشاهي،ثم وصلنا طريقنا، وهاهي نصف ساعة أو اقل لنصل بنغازي، وبالتحديد عند بلدة توكرة التي اسسها الاغريق، وتبعد حوالي 70 كيلومتر من بنغازي. ومررنا على بلدة سي خليفة،ثم بلدة الكويفية على مشارف مدينة بنغازي... 
دقائق وندخل بنغازي من بوابة الكويفية، والاسئلة تلهبت مشاعري وتفكيري وجعلتني كـسّـابح في الفضـاء يغمر كيانه الفرح الشّديد ويهز وجدانه بأحاسيس جميلة ، إنّـها مشاعر فرح وسعادة فاقت كلّ أحاسيس ولحظات الفرح والسّرور التي عشتها طيلة حياتي ، هذه المشاعر تختلف نوعًـا ودرجة عن أي مشـاعر !! مشاعر وأحاسيس هذه اللحظة ، لحظة العودة إلى أرض الوطن بعد غياب دام 14 سنة ، الى مدينتي بنغــازي التي يحمـل لهـا سكـانهـا عشقـاً خـاصـاً وارتبـاطاً لا ينفصـم عـراه ، يحبـونهـا بجنــون ويسمـونهـا بـ " ربـايـة الـذائـح".
اول ما يلفت انتباهك بمجرد دخولك بنغازي عبر مدخل الكويفية هو إختفاء اللون الاخضر واليافطات والخرقة الخضراء، وصور القائد الملهم وشعارات الكتاب الاخضر التي كانت تصادفك في كل مكان في مدينة بنغازي.

الذي وصفها الشّاعر الدّكتور عَلي السّاحلي يرحمه الله ، 

قالوا هنا بنغازي قلت وهل سوي 
بنغازي ملعب صبوتي ومراحي 
بنغازي مهد طفولتي وفتوتي
ورجولتي وكهولتي وكفاحي
أزكي من الريحان ريح سباخها
بل من أريج المسك والتفاح


في الطريق الى وسط المدينة مرينا على اللثامة،والزريريعية
ودكاكين حميد والصابري.. عرجون الفل.. . الصابرى عمره ما ذل 
الصابري زين على زين .. الصابري ورد وياسمين .
حيث البيوت القديمة العامرة بالحب والمودة، والحصران الممدوة في الشارع، وطاسة الشاهي الخضرة.. الصابري .. زرائب العبيد حيث الدنقة والغيطة والرقص ... الصابري.. الرياضة ومنها خرج اقدم فريق رياضي ليبي عام 1926، وفي الفن والادب، ال زغبية(الادباء محمد وخالد وابراهيم)،المخرج المسرحي داوود الحوتي، والكاتب المسرحي علي الفلاح، ومن زرايب الصابري، خرج الفنان الشعبي" "احميدة سعيد الوداوي" الشهير باحميده درنة " صاحب الصوت الرقيق العذب القوي، واغانيه المرسكاوية الشهيرة" ومن امثلتها:
نريد نرسلك تمشيش ياشوشانه
تجيبى خبر ريدى ووين مكانه

*********
نريد نرسلك تمشي له
بوعين سوده لابس التكليله
من فرقته جردى غلبنى شيله
فى وسط قلبى والعه نيرانه
*********
نرسلك ياجاره
تجيبى خبر ريدى ووين دياره
من فرقته قلبى شعيله ناره
جانى الخبر نازل على زيانه
********
نرسلك لاغادى
لبوعيون يرزن فالتات عوادى
من فرقته قلبى انحرق م البادى
قالوا مريض وحالته تعبانه
وفي الاعراس الشعبية يغني، اغنيته الشهيرة
سيدي الفقي لو ريت بوتكليلة.. يحرم عليك الدرس ما تمشيله. والتبرويلة تقول:
أنت يلي شالك لاويه.... جرحت الخاطر روف عليه
شالك ملفوف..
خمسطاشر لفه عالجوف
الخاطر من عشقك ملهوف
طلب مرّة في العمر عطيه
وانت ياللي شـــــــالك لاويه

وعلى وقع هذه الانغام الجميلة نواصل طريقنا بهدوء و...
نقترب من شط توريللي، قرب شاطئ البحر وبجوار منارة إرشاد السفن العتيقة " منارة خريبيش " ، المنارة التي التي شيدت عام 1935م،ويبلغ ارتفاعها 41مترا، وتقوم عائلة بشون على خدمتها منذ سنوات طويلة، و كانت تستخدم فى أكثر من غرض .. فيها خزانات لمياه البحر ، ومياه الشرب وفى أزمنة سابقة كانت مصدرا للحياة فى حى خريبيش القديم .. إضافة إلى كونها تهدى السفن القادمة للميناء لتلافى الأماكن الوعرة فى البحر ولتلافي أخطارها.. ولقد كان لذلك الحي شوارعه، وازقته ، ومساجده العريقة،مثل جامع المدنية وعمره أكثر من مائة عام، ، وشخصياته الشعبية، " المطرب الشعبي علي الجهاني- عليويكه، واغانيه الشعبية التي طالما امتعت عشاقه.." يا طير سلملي علي غاليا....سلاماً يرد الروح ترجع ليا" دابين حى الشمس وانا واعى ..... وليا غربت يلفن عليا اوجاعى"، ومن الحانه المميزة اغنية"شاطت نارك في كنيني واقده...وإنت ما تسالي عليّ راقده". واغنية ( لوكان يابه خاطرى يهنيني… ) كما غني عشرات الاغاني التي ساهمت في اثراء الفن الشعبي الغنائي الليبي.
وفي تلك المناطق عاش الرياضي احمد بشون، والمطربين محمد مختار ،محمد صدقى ،على الشعالية "،ولـ" سي خريبيش" افراحه، وغيطته المميزة في الاعراس" الطير الابيض وارد على البير، متحزم بحزام حرير... قولو لمي يانا المريض ، سبب دايا بوحزام عريض! الغيطة لنا يا كذاب بحرية وعيال بلاد!!
ونصل الشابي... ويجرنا الحديث الى السجن القديم، هوتيل نجمي ومطعم بوذراع .. وسي ونيس بوذراع وشقيقه فرج، والفرجاني منينة ومصطفى السنفاز وسالم ورمضان الشركسي، الذين قرروا الذهاب للجهاد في فلسطين ضد قيام دولة الصهاينة!، الزاوية الرفاعية وسي المغربي الشريف شيخ الزاوية، وجامع بن كاطو، وعن ازقة وشوارع المنطقة، عن سالم بشون ملحن النشيد البرقاوي،" نحن ياليبيا الفدا"، كلمات المرحوم الأستاذ محمد بشير المغيربي. ولسالم بشون قصيدة مشهورة هي قصيدة من الحان الزمن الجميل وهي " الارض" اداها الراحل محمد صدقي.. وتقول كلماتها :

هذه الأرض هي العرض لنا
قد سقينا تربها من دمنا
كيف نرضى أن نراها وطنـا
لعدانا أو سوانا أبدا أبدا

والفنان رجب البكوش مؤسس المسرح في بنغازي عام 1936، والشاعر الغنائي مسعود بشون، صاحب أعذب الكلمات في الاغنية الليبية، ومنها اغنية" ريدي اليوم باعث لي سلامه،،، بعد الياس جا امجدد غرامه".الذي اداها المطرب محمد رشيد. كما كتب كلمات اغنية" يطق القلب وأمجور عليا،،، جابد شوق من ماضي الغية" من اداء نوري كمال.
وعاش في المنطقة الكثير من العائلات الليبية العريقة مثل: بودلال، بوذراع ، حويو، الربع، باله، الهباب، البكوش، البناني، الشابي، النخاط، بوحلفاية، الصلابي، القاضي، شمبش، المغبوب، العنيزي، الكوافي، الصادق الورفلي، زغبية"، الطواحني،ماعونة، الماقني،بشون،بوحلفاية،قرقوم، المغربي الشريف، نجم، السعداوي، العدولي،.

ومن هناك الى ثم ميدان سوق الحوت ومنه الى شارع العقيب.. مسقط الراس..
حيث تجمع خيرة عائلات بنغازى،الذي ربطت بينهم على الدوام أواصر حسن الجوار، والمحبة والاخوة : بسيكري،بن حليم،البابور، بن عامر،المخزومي، عثمان الصادق،الفلاح، التركي، بن صويد، الضراط، بوسن، سميو، بن هلوم، بوجازية،الكيخيا، كريميش،الزغيبي، سحيم ، البسيوني،الدرفيلي،كدوم، قيني،تربل، اطلوبة، النعاس، المساك،الدراجي، الى جانب عائلات ايطالية ويونانية، سكنت فيما كان يعرف بالحي الاوروبي من المدينة.
عندما عدت للمرة الثانية من اليونان الى بنغازي كان ذلك في يوليو من عام 2011 ،شعرت بشعور مختلف، و بإرتياح كبير وطمأنينة عميقة .... وبسبب ما حدث في 17 فبراير ... عدت الى بنغازى... التي أعرفها... لكنى لم أجدها يا عمر الصغير... وشعرك الحرير الذي كان طويلا اسودا... فقط كانت اطلال تبكينا كما نحن نبكيها... وكثيرا ما تذكّرت كيف كانت.... كنت اطوف بنغازى من الصباح حتى غروب شمسها الباكر الذى أشاهده وأشهده كل يوم من عند "الكابترانيا" التي لا تبعد عن بيتنا الا بأمتار قليلة، بعد ان أمر على الكنيسة الكاتدرائية وأسمع زقزقة العصافير عند كشك عمران، وأظنها قد رحلت هي الاخرى!!!... ماذا أقول ولمن اشتكي يا عمر.. فالدموع غلبتي وتساقطت دون أرادتي على " الكي بورد"... آه ثم آه... لماذا ورطتني وألحيت علي كي اكتب هذه الذكريات الجميلة والأليمة في نفس الوقت.. ذكريات أريدها أن تعود، ولكن هيهات..أو كما قال الشاعر
محمد بن عبد الملك الزيات يشتكي مصابه ويذكر فجيعته ويبكي على زمانه:
عَرِيت من الشباب وكنتُ غَضّا كما يعرى من الورق القضيبُ
ونُحْت على الشباب بدمع عيني فما نفع البكاءُ ولا النحيبُ
فيا أسفا أسِفتُ على شباب نفاه الشيبُ والرأسُ الخضيبُ
ألا ليت الشبابَ يعودُ يوما فأخبرهُ بما فعل المشيبُ

عدت يا عمورة... لاستعادة أسمـاء وذكـريـات قـديمـة، لا لمجـرد التـذكـر فقـط ، بـل أحـاول استعـادة روح المكـان والـزمـان ، وعبـق الأزقـة والشـوارع المنسيـة ، ومـلامـح وجـوه العـابريـن فـي حيـاتنـا منـذ سنـوات وسنــوات علنـا نشعـر بشــيء مـن الـدِف والطمأنينة فـي زمـن متسارع سبــر أغـواره .
ذلـك الـزمـن الطيـب الجميـل الـذي كـان النـاس فيـه سعـداء بشكـلٍ مـا رغـم الفقـر وضنـك العيـش ، .. زمن مظـاهـر الحيـاة البسيطـة .. الأسـواق و مـلاعـب الكـرة والمسارح والاسواق الشعبية .. المطربين، اصحاب الحرف، الثقـافـة والفكـر فـي بنغـازي، أعـلام وأسمـاء فـي تاريـخ بنغـازي تكـاد تسقطهـم ذاكـرة الأجيـال الجــديـدة ..
لكن لم أجد اشياء كثيرة أحببتها وعشقتها وميزت بنغازي عن باقي المدن، ولعلها سنة الحياة والتغيير الذي طال كل شئ..
لم اجد .. جـريـدة الحقيقـة وكتـابهـا الرائعيـن الـذيـن استطاعوا ، بصـدق كتاباتهـم ودف المشـاعـر الطـاغيـة بأحرف كلمـاتهـم أن يوقفـوا النـاس طوابيـر أمـام أكشـاك بيـع الصحـف منتظـربن مقـالاتهـم .. 
لم اجد بنغازي.. الطرب الاصيل، شادي الجبل.. السيد بومدين" طولتي الغيبة". والشعالية" نور عيون" وعمر المخزومي " شقيت في غيابه اليوم لاقاني وطي النظر ما تقول عمره راني" ومحمد صدقي" طيرين في عش الوفا" ومحمد مختار" يا عزيز عليا مبروك عيدك"، الوردة الليبية .. الفونشة" الرجا يا عيني". عطية محسن وعادل عبد المجيد. ووجدت طغيان موسيقى الراب الشبابية!
لم أجد هوتيل " عمر الخيام " بل وجدت امامي ينهض مبنى مهجور يملاؤه الحطام والركام، بعد ان كان زينة بنغازي. 
لم أجد حافلات النقل العام، بل باصات الربع جنيه التي وفرت على الحكومة، حل مشكلة المواصلات في دولة نفطية!
وجدت سينما البرنيتشي على حالها لسنوات طويلة تتعانق و تتعالق عليها ( السّقالات )، مع وقف تنفيذ أعمال الصيانة .
غابت "ديار جليانة" وغاب سوق الظلام، وشجرة الميدان، وضريح المختار، ومدرسة الامير، ... وتعرض مبنى البريد المركزي للاهمال. ومازالت المدينة الرياضية تنتظر الصيانة! وبحيرة 23 يوليو الى التنظيف، وكورنيش بنغازي الى استكمال طريقه!.
وأطلق صرخة من أجل الحفاظ على بيت شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي الذي نعتبره معلماً من معالم المدينة، وجزءاً هاماً من ذاكرة الأمّة والأجيال. البيت الذي كان يسكنه شاعرنا الكبير يشكو من تصدع وتهالك في الجدران، وانهيارات أخرى ربّما تقضي على هذا المبنى الأثري الهام.
ومن أجل الاهتمام قبل فوات الاوان، بواحد من اقدم جوامع بنغازي وهو جامع عصمان الذي يعاني من حالة الإهمال التي يتعرض لها .. وحاجته الماسة إلى الصيانة قبل أن يتهاوى وينهار ... والمحافظه عليه، بأعتباره معلما بارزا من معالم المدينة ..
وتأسفت على عمارة ( السرقسيوني ) المتهالكة ،التي من الممكن ان تسقط فوق روؤس المارين من تحتها في أي لحظة! 
آلمني اطلاق النار الكثيف، ورمي الجولاطينا، وترويع الاطفال والشيوخ والنساء في الافراح والاتراح!
لم تسرني مناظر الجلابيب السوداء المتنقلة المنتشرة في البلاد، وكآن التدين والتحجب، لا يتحقق بلبس ملابس محتشمة بالوان زاهية تسر الخاطر!
رأيت المجاري الطافحة في اشهر شوارع وسط بنغازي، والقمامة المتكومة في كل مكان!
سمعت عن أحياء عشوائية ومدن صفيح، يعاني سكانها من عدم وجود خدمات كافية من مياه وكهرباء وفرص عمل ، فيما تحيط منازله برك مياه الصرف الصحي التي تتكاثر بها الحشرات ، خاصة الناموس.
سمعت عن قصص المدرسين والمدرسات المقلصات الذين تم استبعادهم من وظائفهم في عهد القذافي، وينتظرون تسوية اوضاعهم. وقصة جماعة توزيع الثروة ومن يستحقها؟ المنظومة، اعادة الهيكلة.. واشياء اخرى لم افهمها!
لاحظت اختفاء سوق الحوت والباعة ينادون على البضاعة" هيا قرب "" الشولة" بجنيه ونص بس! هيا قرب على الحمراية!..
والحوت والصبارص والليم القارص !! 

شاهدت صور جريمة هدم مقر النادي الأهلي عـــام 2000هذه الجريمة الوحشية في حق نادي ليبي رياضي ثقافي إجتماعي وفي واقعة هي الأولى من نوعها في العــــــــــــالم في عهد الساعدي معمر القذافي رئيس الإتحاد العام الليبي لكرة القدم... الاهلي صاحب التاريخ العريق والبطولات... الاهلي ابن صويد والمكي والعفاس والبشاري ومرسال وونيس خير والبرناوي والزاوي و الحشاني والفزاني والخطيطي وبن صريتي وخميس الفلاح. 
رأيت الشباب العاطلين عن العمل في نواصي الشوارع يقتلون الفراغ ويقتلهم في رأس الشوكة! ورأيت المظاهر المسلحة وتهورات بعض الشباب التي قادت الى ماسي وكوارث ادت باصحابها الى المستشفيات.
شعرت بالألم ، عندما تجولت في شوارع ما يعرف ،المدينة القديمة ، الذي يسمونها في اوروبا ((المركز التاريخى) فالاهمال وعدم التطوير، وعمليات الهدم والتخريب على يد لصوص المدينة القديمة،تسبب في ركود المدينة الاقتصادى والعمرانى والتجارى الذى شهدته في الماضي. وافسد معالمها التاريخية.
والكارثة واضحة بشكل خاص في منطقة سوق الحشيش ، التي كانت بمثابة القلب الروحي لمدينة بنغازي,و اكبر أسواقها ، ومن هذا المنطقة، خرج أعلام بنغازي في شتى المجالات ( الصادق النيهوم، خليفة الفاخري، خديجة الجهمي،أ حمد الرويعي، محمد عبد الرازق المناع، يوسف الدلنسي، النقابي رجب النيهوم)،وهذه المنطقة، ممكن ان تتحول بقليل من الجهد والاهتمام الى مكان لمهرجان شعبي دائم بازقته وشوارعه ومبانيها الفريدة، 
ولا استثني من ذلك باقي شوارع المدينة، فهي اليوم من الناحية المادية شبه ميتة، فقيرة مدقعة متهالكة البنيان، نتيجة الإهمال والعقاب شبه الجماعي لأهلها. 
انتشار محلات الاكشاك العشوائية وبيع السجائر، وغسل السيارات في الشوارع والساحات، والمبرر، ندرة الشغل عند الشباب! قلت أحسن من بيع اشياء اخرى ممنوعة!
في المآتم غابت قراءة القرآن على روح الميت، وعوض عنها، بدأنا نسمع اطلاق العيارات النارية في الهواء، الى جانب عادة الاكل بعد تقديم واجب العزاء في السهرية، تأتي قصاعي الأرز واللحم.. مع الفلفل الاخضر.. وفجأة تنقلب الكراسي البلاستيك البيضاء، وتتحول الى مائدة (شرط وضع الرجل عليها لحفظ التوازن)، ثم كشف الغطاء والتقاط الملاعق، وهاك يا رز وهاك يا لحم؟ … خلال دقائق تختفي القصاع، ويبدأ الصغار في توزيع طاسات الشاي الخضرة والحمراء..!

لم أجد شخصيــة عرفتها وكثيرا ما ترددت انا واصحابي مشجعي الهلال على بيته .. بيت الكرم .. شخصية لا ابـالـغ إن قلت ان كـل سكـان هـذه المـدينـة يعرفها .. شخصيــة اشتهرت بالمـرح والــود والألفــة ، وإطلاق النكــات والقفشــات الضـاحكـة ، التـي كـانـت ترددهـا المـدينـة فـي حلقــات سمـرهـا .. انه حسين قرقوم الذي عـرفــه النــاس بلقبــه الشهيــر ( الحيطــة)!. 
وكـان الناس في بنغازي، يرددون نكــاتـه وقفشــاتـه الشهيــرة التـي منحـه الله قـدرة عجيبـة علـى ارتجــالهــا بسـلاسـة وخفـة دم كبيـرين .
ووجدت خالتي رجعه، اصغر خالاتي،والوحيدة الباقية على قيد الحياة، خالتي الطيبة الودودة، الذي طالما اكلت الذ خبزة " حلوزي" من يديها.. شفاها الله.
وسعدت بلقاء اصدقاء الكورة .. " سعد الجازوي ومنصور العبار، وبرهوم" ورفاق المدرسة" توفيق بن علي، وفوزي فطنة،محمود الفلاح، وحسين الفرجاني" وانور طلوبة، وحسين عبد الله عثمان، وشلة المسرح الحديث" خليفة الحوات ومفتاح بادي" وشلة اليونان" عبد السلام المجدوب وفيصل الورفلي، وصلاح الغول،وصالح الشريف، وشريف بوقرين، وعادل الغول، واحميده الطيناش، ومصطفى الطراح، ومحمد المجبري، وناصر العنيزي.
ورفقة الطفولة.. عقيلة بسيكري، عصام الدراجي، مادي تربل، ارحيمة وادريس الدرفيلي، زكريا وحسن التركي،ورمضان قيني، ومحمد الكيخيا،ومحمد الشويهدي،عبد السلام الدراجي. 
ومن شارع العقيب أنتقل الى حي سيدي حسين،حيث انصهر الجميع الغني والفقير، العالم والجاهل، كان التعاون والتسامح وصلة القربى وقوة الصداقة سمة ظاهرة بين سكانه، ومن بين شوارعه وازقته، خرج أبناء ساهموا في العطاء من وزراء " عبد القادر البدري" أساتذة عبدالمولي دغمان أستاذ في الجامعة الليبية ،وأكاديميين لمهندس سليمان عبدالقادر المراقب العام للإخوان المسلمين. ومهندسي طيران وحرفيين ومهنيين" مهندس اتصالات عبد الله شحات" وكتاب وشعراء ومنهم شاعرنا الراحل الكبير محمد الشلطامي وأدباء ومشايخ دين الشيخ سالم زوبي. ورياضيين"فرج ساطي - ظهير أيمن فريق الأهلي.
وهناك مازال يقطن خالي منصور شحات، الذي وهبه الله خفــة الـدم والقــدرة علــى الضحــك والإضحـاك، وسرعة البديهة، وارتجال الشعر.
وملاصق لسيدي حسين هناك (حي السكابلي) ببيوته الجميلة وعبير زهوره ووروده، والجيره السمحة مع المسؤولين في العهد الباهي!.أحمدالصويدق وزير الرياضه وبعدين الاقتصاد . عبدالحميد العبار رئيس مجلس الشيوخ .حسين طاهر عضو مجلس شيوخ وكان وزير صحه .الزعيم السنوسي لطيوش قائدالجيش .حامدالعبيدي وزير الدفاع وبعدين التخطيط .
لا استطيع من خلال زيارة لمدة شهر او اكثر ، أن أوجز في مقالة، أو أن أرسم الصورة الواقعية للحياة الاجتماعية الفعلية للحال الليبية من خلآل الأحداث والوقائع، ولكني حاولت رصد جملة من المشاهدات والصور التي مرت علي اثناء اقامتي القصيرة ومن خلال قصص رواها لي الاصدقاء والمعارف.
لاا ستطيع ان اخفي عليكم بان كثير من الامور تغيرت ولكن اكثر شيء تغير هم الناس، وعندما أقول الناس فأعني بذلك طبائعهم، فالوجوه هي نفسها، ولكن الطبائع تغيرت، والسلوكيات كذلك. لعل التغير أو التبدل في أحوال الناس والثقافات والمجتمعات شئ طبيعي.
من الناس من باع نفسه للشيطان الاكبر،ومنهم من ظل وفيا لمبادئه وقيمه. منهم من دخل السجن الصغير، في معتقلات القذافي، ومنهم من بقى في السجن الكبير، تحت مراقبة الرجل الاكبر! منهم من ارتضى بالعيش الكريم، ومنهم من نهب وسرق وباع الشرف والوطن! دفع الثمن ولم يقبض الا الريح! منهم من سافر وتغرب، ودفع اطفاله ثمن الغربة! منهم من دخل في صراع الاخوة الاعداء على الارض والرزق والميراث، بعد أن فرقت بينهم الزوجات والابناء! منهم من ترك مقاعد الدراسة والعمل والمستقبل المنتظر، ليذهب ليشارك في معركة التحرير، طلبا للشهادة دفاعا عن الارض والعرض.
انها بنغازي.. أحببت شوارعها .. أزقتها .. أحياءها .. مقابرها .. مطاعمها .. مقاهيها .. ملاعـبها .. سباخها .. ملحها .. غبارها .. شمسها الشارقة والغاربة .. قمرها الخجول .. بحرها المتماوج .. منارتها الأبدية الومض .. أعلامها الطيبين.. مفتاح الهندياني .. بازامة .. شرِكَة .. حيطة .. احميده فاصوليا .. بابا سليم .. 

ورددت مع صغارها اغاني مازالت عالقة في ذاكرتي..

يا ليل ياعين .. بين البركة وسيدي حسين ..
ياليل ياعين طول السلك يودر يـبرة ..
يا ليل يا عين يلعن جد سواني تيكا ..
يا ليل يا عين واللي حج مع الدوكالي ..

مراجع: أحمد محمد العنيزي/ موقع جيل ليبيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق