الاثنين، 29 أكتوبر 2012


 فنجان قهوة في أقدم مقاهي بنغازي( قهوة تيكه).


عبد السلام الزغيبى


عند الحديث عن أي مدينة لا نستطيع ان ننسى الحديث عن المقهى الذي يمثل جزا مهما من ثقافة المدينة، بمجموعة قيمها ومفاهيمها التي تتحكم في سلوكيات اهلها.

تعتبر المقاهي في ليبيا عموما ومدينة بنغازي خصوصا ذات طابع مميز لدى فئة كبيرة من المجمتع أصبح عندهم ذهاب إلى المقهى.. طقس يومي عتيد يعرفه كل الرجال منذ عشرات السنين، حتى اشتهر عند العديد بأنه البيت الثاني للرجل. فهو يقصده كل يوم دون كلل أو ملل، يجلس به لساعات طوال.

وكان من عادات اهل بنغازي وبشكل خاص رجالها شرب قهوة الصباح في احدى المقاهي التي أ نتشرت في المدينة بعد أن أصبحت مركزا تجاريا وحضاريا باعتبارها ثاني اكبر المدن الليبية، بعد توافد المهاجرين اليها من كل اصقاع ليبيا دون استثناء،مما زاد من الحاجة لمزيد من اماكن الاستراحة،والترفيه.

والمقاهي بإضافة الى كونها تقدم للجالس فيها خدمات تنحصر بتقديم الشاي والقهوة وبعض المشروبات الاخرى، وبعض العصائر الاخرى، فانها لعبت الدور الاساسي في الحياة السياسية والاجتماعية ،والثقافية في بنغازي ، ليتحول المقهى إلى مرآة عاكسة للمجتمع وتعبير عن نبض الشارع واهتمامات الناس ومؤشر لتوجهاتهم.

أكتب موضوعي هذا وأنا في أحد اقدم مقاهي المدينة، وهو مقهى "تيكه" العتيق، أحتسي قهوتي وأشم عبق التاريخ في كل الأرجاء أسمع قرقعة الفناجين وماكينة القهوة الايطالية تعزف موسيقاها مع الأصوات المتناثرة هنا وهناك، وتزداد الأحاديث طرافة وتشويق،وحدة، وعناد، في بعض الاحيان عندما تكون تدور حول جلسات المؤتمر الوطني العام.وفي احيان اخرى حول مباريات الدوري الاوروبي.

ومن على الكرسي أشاهد أجواء المدينة،والسيارات المارة،والناس التي تتجول هنا وهناك، لقضاء مصالحها،ومبنى البريد الرئيسي، الذي تم بناؤه في عام 1963خافت الاضواء امامي بعد ان كان في الماضي يضج بالحيوية والنشاط، وكشك الجرائد القديم لـ( سي مفتاح الحداد) الذي وضع في هذا المكان في الستينيات وظل مع كشك الطشاني،مكان تزود سكان بنغازي بالمعرفة، والذي ازيل في الثمانينات،في عهد القذافي،وبعد اسبوع مات صاحبه من الزعل والكمد حسرة ليه! وعلى يميني تقبع مكتبة قورينا التي تصارع وتتحدى الزمن!
وأتذكر كيف كانت تلك المقاهي بأجوائها ، من طاولات وكراسي تشدك إليها دون ملل أو ضجر، وروائح القهوة الزكية ، ولكن واقع الحال يقول غير ذلك.

ومن أشهر مقاهي مدينة بنغازي ، التي كانت تضم صفوة ونخبة المجتمع في `ذلك الوقت، مقهى العرودي بميدان البلدية ، الذي كان من أشهر رواده شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، الشاعر رجب الماجري.
وهو ما كان يشكل صالونا أدبيا ، بمعني أن المجتمعين كانوا يتدارسون فيه الأدب والثقافة .. وبالتالي يساهمون في تطوير ثقافة المدينة. 

وهناك مقهى الترهوني ، الذي كان مفضلا للشاعر على الفزاني .ومقهى سوق الحوت، حيث كان الشاعر المرحوم عبد ربه الغناي، يجلس فيه بانتظام. و مقهى العمال بشارع عمرو بن العاص، ومن أشهر رواده الأستاذ طالب الرويعي ، والقاص المرحوم يوسف الدلنسي ، والنقابي المرحوم رجب النيهوم .أما الأديب الراحل خليفة الفاخري ، فكان دائم التردد على المقهى الرياضي في ميدان الشجرة، وعلى مقهى دمشق في شارع عمرو بن العاص. 

وكانت هناك مقاه شهيرة أخرى في مدينة بنغازي، مثل مقهى " سي عقيلة" بشارع نبوس بالقرب من المطبعة الحكومية، وحيث كان يجلس مجموعة كبيرة من الصحفيين والأدباء، منهم الأستاذ أبوبكر عمر الهوني، حسن مسعود عثمان، رشاد الهوني ، والأستاذ محمد على الشويهدي ، وبكر عويضه ، وأيضا المرحوم السنوسي الهوني ، والأستاذ أحمد الحريري ، والأستاذ محمد اوريث ، والأستاذ أنيس السنفاز ، والأستاذ عبد الرازق بوخيط 
إلى جانب مقاه أخرى مثل مقهى شمسه ، ومقهى الترهوني ، ومقهى بالتمر وجميع هذه المقاهي تقع بشارع عمرو بن العاص. هناك أيضا ، مقاه بأقواس الفندق البلدي، ومقهى هلال، وأمامه، مقهى الطرابلسي ، ثم مقهى الحاج بريك بسينما هايتي، ومقهى المجذوب ، وكذلك مقهى بوبكر بن قبلية بسوق الجريد ، عند مدخل شارع بالة . ومقهى العبود بشارع بن شتوان وهو امتداد قصر حمد ، ومقهى ستالين بشارع الشريف ، هناك أيضا مقاه مثل مقهى نجمي على الكورنيش، ومقهى ميدان الحدادة ، ومقهى تيكة أمام البريد الرئيسي، ومقهى أكرم في شارع عمر المختار، وهناك كان يتردد، الناقد حسين مخلوف،والاديب محمد وريث
وفي منطقة البركة - مثل مقهى بن غزي - وفي سيدي حسين - مثل مقهى بوزغبية. ومقهى الوحدة العربية(مقهى على شمالي، الامازيغي، الناصري في شارع قزير، ومقهى علي العربي بجانب مصرف الوحدة، ومقهى البحارة بشارع فييتورينو، ومقهى التونسي بشارع مصراته.

ويدورحديثنا هذه المرة عن مقهى تيكا،الذي يقع مقابل " البريد الرئيسي" وهو يعتبر من اقدم مقاهي المدينة،و الذي فتح ابوابه لاول مرة في عام 1948 بأدارة الحاج مفتاح حسن تيكه، الذي استأجر المكان من السيد مبارك السوسي. والحاج مفتاح عمل كسفرجي في الديوان الملكي حيث يتم استدعائه عند الاحتفالات الرسمية التي تقام هناك. وقد اشرف بنفسه على ادارة المقهى حتى عام 1992، وتوقف لمرضه حتى توفى عام 1996،وتناوب على العمل في المقهى كل من سالم التاورغي، وفضيل الحضيري،وعامل مصري اسمه السيد، خلفه مصري اخر اسمه مسعود، وفي اثناء العطلات الصيفية، كان ادارة المقهى تذهب في احيان كثيرة للحاج المهدي تيكة شقيق الحاج مفتاح.

ويحكي احميده علي تيكه، ابن صاحب المقهى، فيقول: «يظن الناس أن المقهى الشعبي قد انتهى، وهذا خطأ، فلا يزال المقهى الشعبي يحظى بإقبال كبير، حيث يقوم بخدمة زبائنه منذ افتتاحه وحتى الان،بكراسيه وطاولاته المنتشرة امام المقهى وتحت اقواس شارع عمر المختار، حتى عام 1976، حيث امرت سلطات الامن(المباحث العامة) بمنع وضع الطاولات والكراسي خارج المحل، لاسباب سياسية منعا للتجمع، وانتقاد النظام خاصة بعد احداث الطلبة في عام 1976، ولم يعود الحال الا بعد انبلاج ثورة 17 فبراير 2011. وقفل المقهى عام 1983 لمدة عامين، مثله مثل غيره من المقاهي، بعد تجميد النشاط التجاري في البلاد، وهو احد القرارات الغريبة لنظام القذافي.

ويتابع احميده على حكايته فيقول:على مقاعد المقهى جلس الكتاب،والشعراء والرياضيين، منهم على سبيل المثال: الدكتور عبد الواحد خليل،محمد علي البسيوني، السيد بومدين، صالح السنوسي، عمر الككلي وعلى الرحيبي وعبدالسلام شهاب ،احمد الفيتوري،محمد الاصفر، محمد المسلاتي،والصحفي الرياضي عبد المجيد الفيل،وزين الدين بركان، والمخرج مفتاح بادي، ولاعب الكرة مصطفى الشطيطي، والمدرب عثمان زغبية، والرياضي فتحي سويري،ومدرب الاهلي البنغازي، الانجليزي طومسون،ومدربين من تونس والجزائر والمغرب ،واللاعبين، عمر القزيري وعلي مرسال وعلي الميار، واحمد الفلاح ورمضان اشبير. ومن الاجانب كان يتردد عليه بصورة منتظمة، البحارة اليونانيين الذين كانوا يرقعون شباكهم عند مدخل ميناء بنغازي،يتمتعون جميعهم بشرب القهوة العربية على الفحم في بداية الامر ، حتى عام 1963، وبعد فتح البريد الرئيسي وزيادة الطلبات، جلب الحاج مفتاح، ماكينة ايطالية لصنع القهوة والكاباتشينو والاسبريسو. 

كما يتردد على القهوة، الموظفين والمخبرين والعاطلين والمتقاعدين، يتناقشون في كل المواضيع من الرياضة الى السياسة،يحتسون القهوة العربية،التي تزال القهوة تحتل حصة الأسد من طلبات الزبائن في المقاهي الشعبية، أخبرنا أحدهم أنه حتى لو شرب قهوته في منزله، إلا أن ارتشافها في "مقهى تيكه" لها طعم مختلف بينما يأتي طلب الشاي وباقي المشروبات في المقام الثاني.

ويضيف احميده تيكه، ويروي نوادر وحكايات القهوة قبل وبعد ثورة 17 فبراير، فيقول انه في احد اعوام التسعينيات حضر الى المقهى احد الزبائن المعروفين، بعملهم في جهاز الامن الداخلي، ومعه صورة كبيرة لحاكم ليبيا السابق(القذافي) داخل برواز جاهز، وقام بتعليق الصورة في احد اركان المقهى مما اثار سخط واستهجان الزبائن،الذين كانوا يجتمعون عادة في اقصى ركن في المقهى، ويتحدثون بصوت خفي في امور البلاد، وبمجرد دخول احد المخبرين، يتغير مسار الحديث لينتقل الى امور الكورة، وكان كود تغيير المسار هو كلمة( شنو صار في فريق الاهلي أمس)، واستمر الحال على ماهو عليه،لانه في ذلك الوقت لم يستطع احد معارضة الامر بشكل واضح!!ومن النوادر الذي يحكيها احميده علي.. ان فرقة من الحرس البلدي مع رجال الامن السري، حضروا الى المقهى في اغسطس 2010 أي قبل موعد الاحتفال بانقلاب سبتمبر، عند الساعة العاشرة صباحا ، والزبائن جالسين على المقهى، طلبوا منه اخراج الزبائن واقفال المحل لساعات من اجل طلائه باللون الاخضر، مشاركة في الاحتفال!!.

اما المقهى بعد اندلاع ثورة 17 فبراير وبسبب قربه من ساحة التحرير، فقد شهد رواجا من الزبائن الذين كانوا يتابعون الاحداث، وكذلك شهد تجمع عدد كبير من الاعلاميين والصحفيين الاجانب الذين حضروا من كل مكان لمتابعة الاحداث عن قرب، وتناول المشروبات الباردة والساخنة ومن بين هؤلاء مراسلين قنوات عربية مثل الجزيرة والعربية والتلفزيون المصري، وقناة 24 فرنسا،بي بي سي،ومحطات امريكية واوروبية مشهورة. 

وبعد ان انتهيت من الحديث مع صاحب المقهى، توقفت الذاكرة، وتوقفت الكتابة وتوقف التدوين، فالساعة التي أمامي، تشير الى الساعة الواحدة ظهرا، وهو موعد قفل المقهى، وتعلن عن قرب مغادرتي المكان، لملمت أوراقي وتفقدت أشيائي، وغادرت وأنا أودع مبتسماً صاحب المقهى، ورواده، على أن نلتقي في وقت اخر، اطفئت الانوار في المقهي، استعدادا لقفل أبوابه، ولكنه سيعاود فتحه من جديد بعد العصر، فالمقاهي في هذه المدينة لا تصد أبوابها، عن روادها وعن كتابها وفنانيها وناسها ومواطنيها.

أنها دعوة للاهتمام بتاريخ المقاهي في بنغازي وتوثيقها، خدمة لتراث هذه الأمة،لتعود للقيام بدورها الثقافي، المتمثل في هذا التجمع العفوي اليومي. المدينة التي يعاني مثقفوها وأدبائها من قلة توفر المقاهي الأدبية، او ما يقوم مقامها وباعتبار ان المقهى يمثل ملتقى يومي دائم لهم. ملتقي الإبداع والثقافة والفن والسياسة والناس والشعوب، طالما هناك من يرعاها ويحافظ عليها، ويعتبرها إرثاُ ثقافياُ وأدبياُ شأنها شأن أي موروث تحتويه المدينة، يتوارثه الأجيال جيلاُ بعد جيل، معرفا بتاريخ المدينة وتاريخ مبدعيها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق